الفصل السابع والعشرين
("خليك معانا يا الله ")
مرت علىّْ تريزا بعد ما هاتفتها على غير موعد وطلبت منها الحضور، أخبرتها برحيلى، شهقت بعفوية وطيبة إمرأة ذاقت مرارة البعاد وعذابات الاقتلاع من الأوطان والأهل، تركت قطعة من كبدها في بلدها ونزلت لبنان بحثًا عن حفنة مال تعينهم بها، عَرَضَت على إعداد بعض الطعام، فشكرتها وطلبت فنجان قهوة أتذكرها به، أعدته وجائتنى بعينين دامعتين، تمنيت لها حظًا طيبًا وأن يعم بلدها الأمن والسلام حتى تعود سريعًا إلى أولادها، شكرتها على حُسن صنيعها معى ونقدتها مبلغًا من المال لترسله لزوجها وأولادها، رجتنى إن نزلت بيروت أن ترانى لتطمئن علىّْ، ووعدتها وأنا أدرك تمام الإدراك أن هذا فراق بينى وبين بيروت، من ذلك اليوم، لن تعرف محطات سفرى بيروت ولن أمر بها ثانية، ستنضم إلى قوائم الذكريات.
بقيت مايا، لن استطيع السفر دون وداعها وإبلاغها بنفسى، آمل أن يتكفل الزمن بمسح عذابات الحاضر والماضى، أتعشم أن يأتى يوم تصبح فيه هذه الأحداث المؤلمة ذكرى نسترجعها من حين لآخر دون ألم وربما ابتسمنا أيضا، يتوقف الأمر على متى نتخذ القرار بجعلها ماض تختفى معه شوكتها، لا يتبقى منه سوى ما يتبقى من الجُرح بعد اندماله؛ مجرد نتوء بسيط أملس الملمس، للأسف لا يملك غيرنا اتخاذ القرار، نحن وفقط، من هنا تأتى صعوبته !.
ممزقون في مراحل المابين، مشتتون ما بين شاطئ الأمل وبحر الرجاء، أملى ألا تطول بنا أشواط السباحة في بحر الرجاء وأن يسعنا شاطئ الأمل بجنانه وأشجاره الوارفة. ألاَ تعلو الفروع وهى تعلم أنها تعاند الجاذبية والجذور؟، ومع هذا تتخذ القرار؛ تراهن على قدراتها للموائمة مع المتغيرات. ألا تهاجر أسماك السالمون مياهها المالحة في رحلة انتحارية عكس التيار لتضع بيضها في المياه العذبة، عادة ما نحتاج لتغيير كبير حتى نصنع فرقًا، وبقدر التغيير يكون الفارق، علاقة طردية.
بعد ما تركت الحاج سعيد في شارع الحمرا، تناولت قهوة في مطعم ليلى مع بعض الفطائر، مسحت بعيناى الطاولات والحوائط والديكورات التى طالما شهدت جلساتنا أنا ومايا، طلبت قهوة مرة ثانية، ربما لصبغ مراسم الوداع بطابع خاص –كوبي قهوة-، وربما لإطالة الجلسة في مكان له من الذكريات ما ليس لغيره، ولن يكون.
وكعادة كل شيء، جاء الوداع، ودعت مطعم ليلي بنظرة طويلة، ثم انصرفت واستقليت تاكسى إلى شقتى مرورًا بمطعم الصخرة Bay Rock، فصخرة بيروت، فمطعم الحلاب، لمحت طاولة شقائنا خالية يغمرها الظل، مر شريط إقامتى في بيروت أمام عيني في لحظة.
أخذت حمامًا دافئًا وبدلت ملابسى وألقيت نظرة أخيرة على حقيبتي ثم غادرت إلى ساحة رياض الصُلح يتردد في رأسي صوت فرانك سيناترا مغنيُا "Strangers in the Night"، تمطر الذكريات في صحراء عقلى ونفسى فتنبت حشائش وأشجار،
Something in your eyes
Was so inviting
Something in your smile
Was so exciting
Something in my heart told me I must have you
......
......
Doo-bee-doo-bee-doo
Doo-doo-dee-dah, dah-dah-dah-dah-dah
حقا، التقينا كغريبين لكننا لن نفترق كغريبين، علينا أن نترك أجمل الذكريات، تكفينا آلام الفراق. أوقفت التاكسي في الميدان أمام مبني المنظمة.
صعدت الدور الأول، مشيت في الطرقة الطويلة، وقفت هنيهة أمام باب مكتبها، ثم طرقت طرقتين متتاليتين، كعادتي، ثم فتحته في هدوء، كانت منطفأة تغشى عينيها اللوزيتين حمرة سهاد، أعرف هاتين العينين حينما يسهدا ويأرقا، وأعرف أنها لا شك عادت ترسم أشكالها الوهمية في الفضاء وتعد على أصابعها الرفيعة الرقيقة، مضى على آخر لقاء لنا أكثر من شهر، ولم تشأ الصدفة الكسولة عناء ترتيب اجتماع يضمنا، لم نتواصل ولا حتى برسالة صباحية كتلك التى كنت انتظرها متلهفًا، حتى ظننت أن الصباح اخُترع كى ترسل مايا صباحاتها، وأن المساء ما كان ليأتى إن لم ترسل همساتها وصورها.
كانت تجلس وحدها في مكتبها، سلمت عليها وجلست قبالتها، قامت بعدها إلى ماكينة القهوة المستقرة في الزاوية على يمين الشباك المطل على الحديقة، وضعت كبسولة قهوة وجائتنى بفنجانى إلى جواره قطعة حلوى كعادتها، قطعًا للصمت المقيت علقت على جمال الطقس، كان الجو صحوا تتمدد في أركانه أشعة الشمس الذهبية فتنتشر البهجة والتفاؤل، أَكَدَت على كلماتى، وأمام عجزى عن اصطياد فَراش الكلمات سألتها
- كيفك ؟
ردت بصوت واهن، طازج جُرحه
- Bien، الحمد لله
- ....
- ع بالك كلام
أجبت بحسم،
- حبيت اسلم عليك قبل ما اسافر
- لوين يا ترى؟
- تشيلى !
- يا ألله، شو بعيدة، قديش بتقعد
- مش عارف !
- كِيف ؟
- ....
- استجمام ولا شُغُل ؟
- شغل
- إيه، كيف، مو فاهمه
- اتنقلت !
قالت مشدوهة بعينين واسعتين وقد ارتفع وجيب صدرها وتلاحقت أنفاسها
- اتنقلت؟، لوين؟
- تشيلى، مقر الأمم المتحدة في تشيلى
قالت واضعة كفيها على خديها ودمعت عيناها وراحت تحرك رأسها في أسى يمينًا ويسارا،
- يا ألله
- .....
ثم قالت بصوت مخنوق:
- من شان إيش؟
- كله بيهون
امتلأت عينيها بالدموع ثم انحدر بعضها على خديها فتناولت منديلاً ومسحتها وقلت
- حبيت اسلم عليك
- امتى بترحل ؟
- فى المسا
خرجت منها آهه عميقة قوية يتردد صداها داخل بئر تتجدد أحزانه الراكدة على مدار الساعة
- آآآه !!
- مايا، بعتذر منك عن كل إساءة، ألله بيعلم مكانتك عندى
- مين يعتذر لمين ؟
- أنا بعتذر منك
- آآآآه !!
قلت مادًا يدي،
- أشوفك على خير
- .............
تساندت واهنة يغشى وجهها ستارة دموع، كانت يداها باردتان، أخذت يمناها بين كفى وقبلتهما ثم قبلت جبهتها وتمتمت (سامحينى)، كانت ذاهلة ولا أدرى هل سمعتنى واستوعبت كلامى أم لا، ومضيت يتناهى في أذنى صوت نهنهاتها، دسست المنديل الورقي الذي مسحت به دموعها في جيبي، ورددت في نفسى برجاء وابتهال (خليك معانا يا الله).
إلى لقاء في فصل جديد